فصل: تفسير الآيات رقم (222- 223)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏222- 223‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له‏:‏ عمرو بن الدحداح، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، كيف نصنع بالنساء إذا حضن‏؟‏ أنقربهن أم لا‏؟‏ فنزل قوله تعالى ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض‏}‏ يقول عن النساء إذا حضن‏.‏ ويقال‏:‏ ويسألونك عن مجامعة النساء في المحيض‏.‏ ‏{‏قُلْ هُوَ أَذًى‏}‏، يعني الدم هو قذر نجس‏.‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء فِي المحيض‏}‏، أي لا تجامعوهن في حال الحيض‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ‏}‏، يعني لا تجامعوهن وهن حيض، ‏{‏حتى يَطْهُرْنَ‏}‏‏.‏ قرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏حتى يَطْهُرْنَ‏}‏ بتشديد الطاء والهاء والنصب، والباقون بالتخفيف أي يغتسلن وأصله يتطهرون، فأدغمت التاء في الطاء فصار ‏{‏يَطْهُرْنَ‏}‏‏.‏ فمن قرأ ‏{‏يَطْهُرْنَ‏}‏ أي يغتسلن، ومن قرأ ‏{‏يَطْهُرْنَ‏}‏ أي حتى يطهرن من الحيض‏.‏

قال الفقيه الزاهد؛ نعمل بالقراءتين جميعاً؛ فإن كانت المرأة أيام حيضها أقل من عشرة أيام فلا يجوز أن يقربها ما لم تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة وإن كانت أيام حيضها عشرة، فإذا انقطع عنها الدم وتمت العشرة، جاز له أن يقربها بغير غسل‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏، يعني أي اغتسلن من الحيض، ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏، أي جامعوهن من حيث رخص لكم الله في موضع الجماع‏.‏

ويقال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏فاعتزلوا النساء فِي المحيض‏}‏، اعتزلوا النساء في أيام الحيض وأخرجوهن من البيوت؛ فقدم أناس من الأعراب وقالوا‏:‏ يا رسول الله البرد شديد وقد اعتزلنا النساء، وليس كلنا يجد سعة لذلك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّمَا أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْتَزِلُوا النِّسَاءَ عَنْ مُجَامَعَتِهِنَّ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ أَنْ تُخْرِجُوهُنَّ مِنَ البُيُوتِ كَمَا تَفْعَلُ الأعَاجِمُ»

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ التوبين‏}‏، يعني التوابين من الشرك والذنوب‏.‏ ‏{‏وَيُحِبُّ المتطهرين‏}‏، أي من الجنابة والأحداث‏.‏ ويقال‏:‏ ويحب المتطهرين من إتيانهن في المحيض، في أدبارهن يتنزهون عن ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ ويحب التّوابين من الذنوب والمتطهرين الذين لم يذنبوا‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف قدَّم بالذكر الذي تاب من الذنوب على الذي لم يذنب‏؟‏ قيل له‏:‏ إنما قدمهم لكيلا يقنط التائب من الرحمة، ولا يعجب المتطهر بنفسه؛ كما ذكر في آية أخرى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير‏}‏ ‏[‏‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏‏.‏ يقول‏:‏ مزرعة لكم للولد، ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ‏}‏‏.‏ والحرث في اللغة هو الزرع، فسمى النساء حرثاً على وجه الكناية، أي هن للولد كالأرض للزراعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أنى شِئْتُمْ‏}‏، أي كيف شئتم؛ إن شئتم مستقبلين، وإن شئتم مستدبرين، إذا كان في صمام واحد‏.‏ وذلك أن اليهود كانوا يقولون‏:‏ لا يجوز إتيان النساء إلا مستلقياً، وكانوا يقولون‏:‏ إذا أتاها من خلفها، يكون الولد أحول، فنزل قوله تعالى ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ‏}‏‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يَنْظُرُ الله عَزَّ وَجَلَّ إلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أوِ امْرَأةً فِي دُبُرِهَا» وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبرِهَا»

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ‏}‏ من الولد الصالح‏.‏ ويقال قدموا لأنفسكم من العمل الصالح‏.‏ ويقال‏:‏ سموا الله أي قولوا بسم الله الرحمن الرحيم عند ذلك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏، أي اخشوا الله ولا تقربوهن في حال الحيض ولا في أدبارهن‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّكُم ملاقوه‏}‏، أي تصيرون إليه يوم القيامة، فيجزيكم بأعمالكم‏.‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ الذين يحافظون على حدود الله ويصدقون بوعده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏224- 226‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏225‏)‏ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏226‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم‏}‏، أي علة‏.‏ وأصل العرضة في اللغة‏:‏ هو الاعتراض، فكأنه يعترض باليمين في كل وقت، فيكون كناية عن العلة‏.‏ وقيل‏:‏ العرضة أن يحلف الرجل في كل شيء، فمُنِعوا من ذلك‏.‏ ‏{‏أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ‏}‏، يعني لكي تبروا وتتقوا، لأنهم إذا أكثروا اليمين لم يبروا‏.‏ وبهذا أمر أهل الإيمان‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً‏}‏‏.‏ الحلف بالله متعرضاً، أي مانعاً لكم دون البر‏.‏ والمعترض بين الشيئين‏:‏ المانع‏.‏ وقال القتبي‏:‏ لا تجعلوا الله بالحلف مانعاً لكم أن تبروا وتتقوا، ولكن إذا حلفتم على أن لا تصلوا رحماً، ولا تتصدقوا، ولا تصلحوا، أو على شبه ذلك من أبواب البر، فكفِّروا اليمين‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة الأنصاري‏.‏ حين حلف أن لا يدخل على ختنه بشير بن النعمان ولا يكلمه، فجعل يقول‏:‏ قد حلفت بالله أن لا أفعل، ولا يحل لي أن لا أبر في يميني‏.‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم‏}‏‏.‏

يقول‏:‏ علة لأيمانكم ‏{‏أَن تَبَرُّواْ‏}‏، يعني تصلوا قرابتكم، وتتقوا اليمين في المعصية، وترجعوا إلى ما هو خير لكم منها؛ ‏{‏وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس‏}‏، أي بين إخوانكم‏.‏ وروي عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول‏:‏ لا تحلفوا أن لا تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ فمن حلف على شيء منه، فعلى الذي حلف عليه أن يفعل ويكفِّر عن يمينه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الآية بأنهم كانوا يقبلون في البر بأنهم قد حلفوا، فأعلم الله تعالى أن الإثم إنما هو في الإقامة في ترك البر، واليمين إذا كفَّرت، فالذنب فيها مغفور‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم‏}‏ أي بالإثم في الحلف إذا كفرتم، ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ بعزمكم على أن لا تبروا ولا تتقوا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم‏}‏، وهو أن يحلف الرجل بالله في شيء يرى أنه فيه صادق، ويرى أنه كذلك، وليس كذلك، فيكذب فيها‏.‏ ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ يعني هو أن يحلف على شيء ويعلم أنه فيها كاذب‏.‏ ويقال‏:‏ لا يؤاخذكم الله باللغو في اليمين، إذا حلفتم وكفرتم، إذا كان الحنث خيراً؛ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، أي أثمتم بغير كفارة‏.‏

‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ لمن حنث وكفر بيمينه‏.‏ ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ حيث رخص لكم في ذلك ولم يعاقبكم‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ‏}‏، يعني الذين يحلفون أن لا يجامعوا نساءهم، ‏{‏تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ‏}‏، يعني لهم أجل أربعة أشهر بعد اليمين، ‏{‏فَإِن فَآءوا‏}‏، يعني إن رجعوا عن اليمين وجامعوا نساءهم من قبل أن تمضي أربعة أشهر بعد اليمين، وكفَّروا عن أيمانهم ولا تبين المرأة عن الزوج؛ ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏227- 232‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏227‏)‏ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏228‏)‏ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏229‏)‏ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏230‏)‏ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق‏}‏، يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع، حتى مضت أربعة أشهر وقعت عليها تطليقة بمضي أربعة أشهر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يقع الطلاق، ولكن يؤمر الزوج بعد مضي أربعة أشهر أن يجامعها أو يطلقها‏.‏ وقال بعضهم يقع الطلاق بمضي أربعة أشهر؛ وهو قول علمائنا‏.‏ وروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود أنهما قالا‏:‏ عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق‏}‏، أي أوجبوا الطلاق بترك الجماع؛ ‏{‏فَإِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لمقالتهم بكلمة الإيلاء ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بهم‏.‏

‏{‏والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ‏}‏، يعني وجب عليهن العدة ‏{‏ثلاثة قُرُوء‏}‏، أي ثلاث حيض‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ثلاثة أطهار‏.‏ وقال أكثر أهل العلم‏:‏ المراد به الحيض‏.‏ وأصل القرء‏:‏ الوقت‏.‏ وظاهر الآية عام في إيجاب العدة على جميع المطلقات، ولكن المراد به الخصوص، لأنه لم يدخل في الآية خمس من المطلقات‏:‏ الأمة والصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخولة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ‏}‏، يعني الحمل والحيض، لا يحل لها أن تقول‏:‏ إني حامل وليست بحامل أو إني حائض وليست بحائض ‏{‏إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الاخر‏}‏، يقول إن كن يصدقن بالله واليوم الآخر‏.‏

‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا‏}‏، يعني للنساء على الأزواج من الحقوق مثل ما للرجال على النساء، يعني في حال التربص إذا كان الطلاق رجعياً‏.‏ ‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ بالمعروف‏}‏، يقول بما عرف شرعاً، ‏{‏وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ‏}‏، أي فضيلة في النفقة والمهر‏.‏ ‏{‏والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ‏}‏ فيما حكم من الرجعة في الطلاق الذي يملك فيه الرجعة‏.‏

ثم بيّن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ‏}‏، يعني يقول‏:‏ الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان‏.‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ‏}‏، يعني إذا راجعها، يمسكها بمعروف، ينفق عليها، ويكسوها، ولا يؤذيها، ويحسن معاشرتها؛ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏، يعني يؤدي حقها، ويخلي سبيلها‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏، يعني يطلقها التطليقة الثالثة ويعطي مهرها‏.‏ ويقال‏:‏ يتركها حتى تنقضي عدتها‏.‏ ويقال يؤتي حقها ويخلي سبيلها ويقال‏:‏ أو تسرح بإحسان‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان أهل الجاهلية إذا طلق تطليقة أو تطليقتين، كان الزوج أحق بها؛ وإذا طلقها الثالثة، كانت المرأة أحق بنفسها؛ واحتج بقول الأعشى وكانت امرأته من بني مروان، فأخذه بنو مروان حتى يطلق امرأته، فلما طلقها واحدة قالوا له‏:‏ عد فطلقها الثانية، فلما طلقها الثانية قالوا له‏:‏ عد فطلقها الثالثة، فعرف أنها بانت منه ولا تحل له، فقال عند ذلك‏:‏

أَيَا جَارتِي بِينِي فإِنَّكِ طَالِقَه *** كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَه

وبَيِنِي فَإِنَّ البَيْنَ خَيْرٌ مِنَ العَصَا *** وَأَنْ لاَ تَزَالُ فَوْقَ رَأْسِكِ بَارِقَه

وَذُوقِي قَنَى الحَيِّ إنِّي ذَائِق *** قَنَاة أُنَاسٍ مِثْلَ مَا أَنْتَ ذَائِقَه

لقدكان في شأن قومِك منكحٌ *** وفتيان هزان الطوال العرايضة

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا‏}‏‏.‏ نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، وزوجها ثابت بن قيس؛ وكانت تبغضه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ لا أنا ولا ثابت فقال لها‏:‏ «أَتُرَدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ‏؟‏» فقالت‏:‏ نعم وزيادة‏.‏ فقال‏:‏ «أَمَّا الزِّيَادَة، فلا» فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها وخلعها من زوجها، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا‏}‏ من المهر؛ ‏{‏إِلاَّ أَن يَخَافَا‏}‏، يعني‏:‏ يعلما ‏{‏أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏، أي أمر الله فيما أمر ونهى‏.‏ قرأ حمزة ‏{‏يَخَافَا‏}‏ بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله، والباقون‏:‏ بالنصب‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ يخافوا‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏، يقول‏:‏ إن علمتم أن لا يكون بينهما صلاح في المقام، ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ‏}‏، أي لا حرج على الزوج أن يأخذ ممَّا افتدت به المرأة، إن كان النشوز من قبل المرأة‏.‏ فأما إذا كان النشوز من قبل الزوج، فلا يحل له أن يأخذ، بدليل ما قاله في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏، أي أحكامه وفرائضه؛ ‏{‏فَلاَ تَعْتَدُوهَا‏}‏، أي لا تجاوزوها‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله‏}‏، أي يتجاوز أحكام الله وفرائضه بترك ما أمر الله تعالى أو بعمل ما نهاه؛ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏، يقول‏:‏ الضارون الشاقون بأنفسهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏، يعني الطلاق مرتان، فلا تجاوزوهما إلى الثالثة‏.‏ ومن يتعد حدود الله بالتطليقة الثالثة، فأولئك هم الظالمون؛ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏ الثالثة، ‏{‏فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ‏}‏ الثالثة، ‏{‏حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏، أي تتزوج بزوج آخر ويدخل بها؛ وإنما عرف الدخول بالسنة‏.‏ وهو ما روي عن ابن عباس أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثاً، وكانت تدعى تميمة بنت وهب، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن، ولم يكن عنده إلا كهدبة الثوب فقال لها‏:‏ «أَتُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ‏؟‏» فقالت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ «لَيْسَ ذلك مَا لَمْ تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ» فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏، يعني إذا طلقها الثالثة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا‏}‏، يعني واحدة أو اثنتين؛ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏، يعني المرأة والزوج ‏{‏أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ فإن طلقها الزوج الثاني بعدما دخل عليها، فلا جناح عليهما يعني المرأة والزوج الأول أن يتراجعا، يعني أن يتزوجها مرة أخرى‏.‏ ‏{‏إِن ظَنَّا‏}‏، يعني إن علما ‏{‏أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله‏}‏، أي فرائض الله؛ يقول إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏، أي فرائض الله وأمره ونهيه وأحكامه، ‏{‏يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏، لأن الجاهل إذا بيّن له، فإنه لا يحفظ ولا يتعاهد؛ والعالم يحفظ ويتعاهد‏.‏ فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال‏.‏

ثم وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏، أي مضى عليهن ثلاث حيض قبل أن يغتسلن، وقبل أن يخرجن من العدة؛ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏، يعني يراجعها ويمسكها بالإحسان‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏}‏؛ أو لا يراجعها ويتركها حتى تخرج من العدة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا‏}‏؛ والضرار في ذلك أن يدعها حتى إذا حاضت ثلاث حيض، وأرادت أن تغتسل، راجعها ثم طلقها؛ يريد بذلك أن يطول عليها عدتها‏.‏ فنهى الله عن ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا‏}‏‏.‏ ‏{‏لّتَعْتَدُواْ‏}‏، أي لتظلموهن‏.‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ الإضرار، ‏{‏فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏، يقول‏:‏ أضر بنفسه بمعصيته في الإضرار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏، يعني عرَّض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه، تعرض لعذاب الله، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا‏}‏، يعني القرآن لعباً‏.‏ ويقال إنهم كانوا يطلقون ولا يعدون ذلك طلاقاً، ويجعلونه لعباً، فنزل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا‏}‏‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏هُزُواً‏}‏ بغير همز، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الصمد‏:‏ 4‏]‏ والباقون‏:‏ بالهمز‏.‏ وهما لغتان، ومعناهما واحد‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏، يقول‏:‏ احفظوا نعمة الله عليكم بالإسلام‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة‏}‏، يقول‏:‏ احفظوا ما ينزل الله عليكم في القرآن من المواعظ ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني الفقه في القرآن ‏{‏يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏، يقول‏:‏ ينهاكم عن الضرار‏.‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ في الضرار، ‏{‏واعلموا أَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ من أعمالكم فيجازيكم به‏.‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏، يقول‏:‏ انقضت عدتهن؛ ‏{‏فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏، يقول‏:‏ لا تحبسوهن ولا تمنعوهن ‏{‏أَن يَنكِحْنَ أزواجهن إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف‏}‏ بمهر ونكاح جديد وذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي الدحداح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت؛ وأبى أخوها أن يزوجها له وقال لها‏:‏ وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه‏.‏

فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أزواجهن إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف ذلك يُوعَظُ بِهِ‏}‏، أي يؤمر به‏.‏ ‏{‏مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر‏}‏، أي يصدق بالله واليوم الآخر ‏{‏ذلكم أزكى لَكُمْ‏}‏، يعني خير لكم ويقال‏:‏ أصلح لكم، ‏{‏وَأَطْهَرُ‏}‏ من الريبة‏.‏

‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ من حب كل واحد منهما لصاحبه ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ ذلكم أطهر لقلوبكم من العداوة، لأن المرأة تأتي الحاكم فيزوجها، فتدخل في قلوبهم العداوة والبغضاء‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ والله يعلم أن الخير في الوفاء والعدل، وأنتم لا تعلمون ما عليكم بالتفريق من العقوبة ومن العذاب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً، وقال‏:‏ «إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنَاً فَلَا تَمْنَعْ أُخْتَكَ عَنْ أَبِي الدَّحْدَاحِ»، فقال‏:‏ آمنت بالله وزوجتها منه وفي هذه الآية دليل أن الولي إذا منع المرأة عن النكاح، كان للحاكم أن يزوجها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏233‏]‏

‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏}‏، يعني سنتين كاملتين، ‏{‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة‏}‏، يعني أن يكمل الرضاعة‏.‏ فإن قيل‏:‏ لما ذكر الحولين، فما الحاجة إلى الكاملين‏؟‏ قيل له‏:‏ هذا للتأكيد، لأن بعض الحولين يسمى حولين، كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏الحج أَشْهُرٌ معلومات فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏، وإنما هي شهران وعشرة أيام‏.‏ فهاهنا لما ذكر الحولين الكاملين، علم أنه أراد الحولين بغير نقصان‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ‏}‏، أي على الأب أجر الرضاع ونفقة الأم؛ ‏{‏وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف‏}‏، أي على قدر طاقته‏.‏ ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏، يعني لا يجب على الأب من النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته‏.‏ ‏{‏لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا‏}‏ يقول‏:‏ لا ينزع الولد من الأم لكونها أحق بولدها من غيرها‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ‏}‏ بضم الراء على معنى الخبر تبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏، ولفظه لفظ الخبر والمراد به النهي، وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب على صريح النهي‏.‏ ‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ‏}‏، يعني الأب لا يضار بالولد، فتطرح الأم الولد إليه بعدما عرفت أنه لا يقبل ثدي غيرها، فلا يجوز لها أن تفعل ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ‏}‏ يعني إذا كان الأب يجد ظئراً أرخص من الأم؛ والأم أبت أن ترضع إلا بأجر كثير، فإن الأب لا يجبر على ذلك، وله أن يدفع إلى ظئر أخرى‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك‏}‏، يعني إذا مات الأب وله وارث سوى الأب، فعلى وارث الصبي مثل ما على الأب‏.‏ ويقال‏:‏ على وارث الأب لا يضارها ولا تضاره‏.‏ ويقال مثل ذلك، يعني الكسوة الرزق في رضاع الصبي ونفقته‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً‏}‏، أي فطاماً ‏{‏عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ‏}‏، يعني الأب والأم دون الحولين‏.‏ ويقال‏:‏ بعد الحولين‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ إن لم يرضعاه سنتين، أي لا حرج عليهما‏.‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم‏}‏، يعني أن تأخذوا ظئراً لأولادكم، إذا أرادت الأم النكاح؛ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم‏}‏ ما أتيتم بالمعروف، يعني لا إثم عليكم إذا أعطيتم الظئر ‏{‏مَّا ءاتَيْتُم بالمعروف‏}‏، ما أعطيتم بما تعرفونه‏.‏ ويقال‏:‏ أعطيتم ما شرطتم لهن‏.‏

ثم خوفهما في الإضرار، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏، يعني الأبوين فلا يضار واحد منهما لصاحبه‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ من الإضرار فيجازيكم به‏.‏ قرأ ابن كثير‏:‏ «مَا أَتَيْتُمْ» بغير مد، يعني ما جئتم وفعلتم؛ وقرأ الباقون بالمد، يعني ما أعطيتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏234‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ‏}‏، أي يموتون؛ ‏{‏وَيَذَرُونَ أزواجا‏}‏، أي يتركون نساء من بعدهم‏.‏ ‏{‏يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ‏}‏، يعني ينتظرن بأنفسهن ‏{‏أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏}‏، لا يتزوجن ولا يتزين ولا يخرجن من بيوتهن ولا يتزين‏.‏ ‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏، يعني انقضت عدتهن؛ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏، أي فلا إثم عليكم ‏{‏فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ‏}‏ من الزينة والكحل والخضاب‏.‏ وذلك أن المرأة إذا انقضت عدتها، فكان أولياؤها يمنعونها من الزينة، فأباح الله تعالى لهن الزينة بعد العدة‏.‏

ويقال‏:‏ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن ‏{‏بالمعروف‏}‏، يعني إذا تزوجن بزوج آخر، إذا كان الزوج كفواً لها، فلا يمنع من نكاحها‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ من الزينة والمنع من نكاحها وغير ذلك‏.‏ وهذه الآية عامة، يستوي فيها المدخولة وغير المدخولة‏.‏ ويستوي فيها الصغيرة والكبيرة في وجوب العدة من الزينة والمنع وغير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏235‏]‏

‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء‏}‏‏.‏ فقد أباح للخاطب أن يتعرض للنكاح، ونهاه عن الخطبة والعقد؛ فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ‏}‏ يقول‏:‏ لا بأس بأن يأتي الرجل المرأة المتوفى عنها زوجها، فيعرض لها ويقول‏:‏ إنك لتعجبيني وإنك لموافقة لي، فأرجو أن يكون بيننا اجتماع، ونحو ذلك من الكلام‏.‏ فهذا هو التعريض من خطبة النساء ‏{‏أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏، يعني أضمرتم في أنفسكم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كل شيء سترته فقد أكننته وكننته فهو مكنون، فلذلك أباح الله تعالى التعريض‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ‏}‏، يعني خافوا الله في العدة من تزويجهن‏.‏ ‏{‏ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا‏}‏، يعني نكاحاً ويقال‏:‏ جماعاً‏.‏ وقال القتبي‏:‏ سمي الجماع سراً، لأنه يكون في السر فيكنى عنه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا‏}‏، يعني عدة حسنة، نحو إنك لجميلة وإني فيك لراغب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح‏}‏، يقول‏:‏ ولا تحققوا عقدة النكاح، يعني لا تتزوجوهن في العدة‏.‏ ‏{‏حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ‏}‏، يعني حتى تنقضي عدتها‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏، يعني ما في قلوبكم من الوفاء وغيره‏.‏ ‏{‏فاحذروه‏}‏، يعني أن تخالفوه فيما أوجب عليكم‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏، أي غفور ذو تجاوز، حليم حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏236- 237‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏، أي لا حرج عليكم ‏{‏إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏؛ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏***تَمَاسُّوهُنَّ‏}‏ بالألف من المفاعلة، وهو فعل بين اثنين؛ وقرأ الباقون بغير ألف، لأن الفعل للرجال خاصة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المس هو الجماع خاصة، فما لم يجامعها لا يجب عليه تمام المهر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إذا جامعها أو خلا بها، وجب عليه جميع الصداق إذا كان سمى لها مهراً؛ وإن لم يكن سمى لها مهراً، فلها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَلِيمٌ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏، يعني إذا تزوج الرجل امرأة ثم لم يعجبه المقام معها، فلا بأس بأن يطلقها قبل أن يمسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏، يعني لا حرج عليكم أن تتزوجوا النساء ولم تسموا لهن مهراً ‏{‏وَمَتّعُوهُنَّ‏}‏، يعني إذا طلقها قبل أن يدخل بها، فعلى الزوج أن يمتعها ‏{‏عَلَى الموسع قَدَرُهُ‏}‏‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص‏:‏ «قَدَرَهُ» بنصب الدال، وقرأ الباقون بالجزم؛ ومعناهما واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ متاعا بالمعروف‏}‏؛ قال ابن عباس في رواية الكلبي‏:‏ أدنى ما يكون من المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وهكذا قال في رواية الضحاك ‏{‏حَقّاً‏}‏، أي واجباً ‏{‏عَلَى المحسنين‏}‏ أن يمتعوا النساء على قدر طاقتهم‏.‏

‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏، يعني من قبل أن تجامعوهن وقبل أن تخلوا بهن، هكذا قال في رواية الضحاك، ‏{‏وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏، يعني على الزوج نصف ما فرض لها من المهر‏.‏ ‏{‏إَّلا أَن يَعْفُونَ‏}‏، يعني إلا أن تترك المرأة فلا تأخذ شيئاً، ‏{‏أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح‏}‏، يعني الزوج يكمل لها جميع الصداق‏.‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏، يقول‏:‏ أن تعفو بعضكم بعضاً كان أقرب إلى البر، فأيهما ترك لصاحبه فقد أخذ بالفضل‏.‏ ويقال‏:‏ إن الله تعالى ندب إلى الإنسانية، فأمر كل واحد منهما بالعفو، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ‏}‏، يعني لا تتركوا الفضل والإنسانية فيما بينكم في إتمام المهر أو في الترك‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏238- 239‏]‏

‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏238‏)‏ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏239‏)‏‏}‏

‏{‏حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏؛ قال ابن عباس‏:‏ أي حافظوا على الصلوات المكتوبات الخمس في مواقيتها بوضوئها وركوعها وسجودها؛ ‏{‏حافظوا عَلَى‏}‏، يعني الصلاة الوسطى خاصة حافظوا عليها‏.‏ ويقال‏:‏ هي صلاة العصر‏.‏ ويقال هي صلاة الصبح ويقال‏:‏ هي صلاة الظهر‏.‏

حدثنا القاسم بن محمد بن روزية قال‏:‏ حدثنا عيسى بن خشنام قال‏:‏ حدثنا سويد بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن داود بن الحصين أنه بلغه، عن رجل، عن زيد بن ثابت أنه بلغه، عن علي وابن عباس أنهما كانا يقولان‏:‏ صلاة الوسطى صلاة الصبح‏.‏

قال مالك‏:‏ وذلك رأي‏.‏ أخبرني القاسم بن محمد قال‏:‏ حدثنا عيسى بن خنشام قال‏:‏ حدثنا سويد بن سعيد بن مالك بن أنس، عن داود بن الحصين، عن رجل، عن زيد بن ثابت أنه قال‏:‏ صلاة الوسطى‏:‏ صلاة الظهر‏.‏

وبهذا الإسناد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن الحكم، عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها أنه قال‏:‏ أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت‏:‏ إذا بلغت هذه الآية فآذني فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي‏:‏ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏:‏ صلاة العصر‏.‏

قال الفقيه‏:‏ حدثنا أبو إبراهيم الترمذي، عن أبي إسحاق، عن أبي جعفر الطحاوي قال‏:‏ حدثنا علي بن معبد قال‏:‏ حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبي إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي، عن عمرو بن رافع، مولى عمر وكان يكتب المصاحف أنه قال‏:‏ اكتتبتني حفصة ابنة عمر مصحفاً وقالت‏:‏ إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها، حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتها أتيتها بالورقة فقالت‏:‏ اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر‏.‏ ويقال‏:‏ هي قراءة عبد الله بن مسعود‏.‏

وروي عن أبي هريرة وابن عمر أنهما قالا‏:‏ صلاة الوسطى العصر وروي عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن علي أنه قال‏:‏ كنت ظننت أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق وقد شغلوه عن صلاة العصر، قال‏:‏ «مَلأَ الله بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً، شَغَلُونا عَنِ الصَّلاةِ الوُسْطَى، صَلاةِ العَصْرِ» وإنما كان فائدة التخصيص بصلاة العصر، لأن ذلك وقت الشغل ويخاف فوتها ما لا يخاف لسائر الصلوات‏.‏ وقد أكد بالذكر قال‏:‏ ‏{‏حافظوا عَلَى‏}‏ خاصة‏.‏ ومن طريق المعقول يدل أيضاً على أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر، لأن قبلها صلاتي النهار وبعدها صلاتي الليل‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏، أي قوموا لله طائعين في الصلاة مطيعين‏.‏ ويقال‏:‏ صلوا لله قائمين، فكأنه أمر بطول القيام في الصلاة‏.‏

كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏يامريم اقنتى لِرَبِّكِ واسجدى واركعى مَعَ الراكعين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الصلاة فقال‏:‏ «التِي يُطِيلُ القُنُوتَ فِيهَا»، يعني القيام‏.‏ ويقال‏:‏ قانتين، يعني ساكتين، كما روي عن زيد بن أرقم أنه قال‏:‏ كنا نتكلم في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المشهور في اللغة الدعاء في القيام، وحقيقة القانت القائم بأمر الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏، يعني إذا خفتم العدو فصلوا قياماً، فإن لم تستطيعوا فصلوا ركباناً على الدواب، حيث ما توجهت بكم بالإيماء‏.‏ وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر صلاة الخوف، ثم قال في آخره «فَإنْ كانَ الخَوْفُ أَشَدَّ مِنْ ذِّلِكَ، صَلُّوا عَلَى أَقْدَامِكُمْ أَوْ رُكْبَاناً مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا» ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏، يعني العدو والخوف، ‏{‏فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم‏}‏، يعني صلوا كما علمكم أربعاً أو اثنتين‏.‏ وعلمكم ‏{‏مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏}‏، يعني علمكم الصلاة ولم تكونوا تعلمون من قبل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏240- 242‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏240‏)‏ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا‏}‏، أي يموتون ويتركون نساءهم من بعدهم ‏{‏وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم‏}‏، أي يوصون لنسائهم‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم «وَصِيَّةٌ» بالضم، يعني عليهم وصية؛ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب، يعني يوصون وصية لأزواجهم‏.‏ ‏{‏متاعا‏}‏، أي نفقة وكسوة ‏{‏إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ‏}‏، يقول‏:‏ لا يخرجن من بيوت أزواجهن‏.‏ وهذا في أول الشريعة كانت العدة حولاً وهكذا كان في الجاهلية‏.‏ ألا ترى إلى قول لبيد‏:‏

وَهُمُ رَبِيعٌ لِلمُجَاوِرِ فِيهِم *** وَالمُرْمِلاتِ إِذَا تَطَاوَلَ عَامُهَا

ثم نسخ ما زاد على الأربعة أشهر وعشراً، ونسخت الوصية للأزواج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ‏"‏ ويقال‏:‏ نسخ بآية الميراث‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ *** فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ‏}‏، يعني من الزينة يحتمل أنه أراد به الخروج بعد مضي السنة، ويحتمل الخروج في السنة إذا خرجت بعذر في أمر لا بد لها منه‏.‏ ‏{‏والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ‏}‏؛ وقد ذكرناها‏.‏

‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف‏}‏‏.‏ والمطلقات أربع‏:‏ مطلقة يسمى لها مهراً، ومطلقة لم يسم لها مهراً، ومطلقة دخل بها، ومطلقة لم يدخل بها، فالمتعة لا تكون واجبة إلا لمطلقة واحدة وهي التي لم يسم لها مهراً وطلقها قبل الدخول‏.‏ كما ذكر في الآية التي سبق ذكرها وفي سائر المطلقات المتعة مستحبة وليست بواجبة‏.‏ ‏{‏حَقّا عَلَى المتقين‏}‏، أي واجباً على المتقين، وذلك فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يجب عليه إلا في المطلقة التي ذكرنا‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته‏}‏، يعني أمره ونهيه، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ما أمرتم به‏.‏ ويقال‏:‏ آياته يعني دلائله‏.‏ ويقال‏:‏ آيات القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏243‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏‏}‏

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ‏}‏، يقول‏:‏ ألم تخبر‏:‏ وهذا على سبيل التعجب، كما يقال‏:‏ ألا ترى إلى ما صنع فلان‏؟‏ ويقال‏:‏ ألم تر، يعني ألم تعلم‏؟‏ ويقال‏:‏ ألم ينته إليك خبرهم‏؟‏ يعني الآن نخبرك عنهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر الناس بالخروج إلى الغزو فخرجوا، فبلغهم أن في ذلك الموضع طاعوناً، فامتنعوا عن الخروج إلى هناك، ونزلوا في موضعهم، فهلكوا كلهم؛ فبلغ خبرهم إلى بني إسرائيل، فخرجوا ليدفنوهم، فعجزوا عن ذلك لكثرتهم، فحظروا عليهم الحظائر‏.‏ ثم أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وبقيت منهم بقايا من البحر ومعهم النتن إلى اليوم وقال بعضهم‏:‏ بلغهم أن هناك للعدو شوكة وقسوة، فامتنعوا عن الخروج إليهم فأهلكهم الله تعالى‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن أرضاً وقع بها الوباء فخرج الناس منها هاربين، فنزلوا منزلاً فماتوا كلهم؛ فمر بهم نبي يقال له حزقيل عليه السلام فقال‏:‏ الحمد لله القادر الذي يحيي هذه النفوس البالية ليعبدوه‏.‏ فدعا لهم فأحياهم الله تعالى؛ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ‏}‏‏.‏ قال ابن عباس في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك‏:‏ ثمانية آلاف، ويقال‏:‏ سبعون ألفاً، ويقال‏:‏ ثمانية عشر ألفاً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هم ألوف كما قال الله تعالى، ولا يعرف كم عددهم إلا الله‏.‏ ‏{‏حَذَرَ الموت‏}‏، أي خرجوا من ديارهم مخافة الموت‏.‏

‏{‏فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ‏}‏، أي أماتهم الله؛ ‏{‏ثُمَّ أحياهم إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس‏}‏، يعني على أولئك الكفار حين أحياهم‏.‏ يقال‏:‏ هو ذو منَ على جميع الناس‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ رب هذه النعمة، يعني الكفار‏.‏ ويقال‏:‏ على الذي أحياهم‏.‏

وفي هذه الآية‏:‏ دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عمن قبله ولم يكن قرأ الكتب، فظهر ذلك عند اليهود والنصارى وعرفوا أنه حق‏.‏ وفي هذه الآية إبطال قول من يقول‏:‏ إن الإحياء بعد الموت لا يجوز، وينكر عذاب القبر؛ لأن الله تعالى يخبر أنه قد أماتهم ثم أحياهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏244‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏‏.‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ لما أحياهم الله قال لهم‏:‏ ‏{‏قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ هذا أمر بالجهاد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ قاتلوا في سبيل الله‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏، أي سميع لمقالتهم، عليم بالأرض التي وقع فيها الوباء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏245‏]‏

‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏‏.‏ نزلت في شأن أبي الدحداح، قال‏:‏ يا رسول الله، إن لي حديقتين لو تصدقت بواحدة منهما، أيكون لي مثلها في الجنة‏؟‏ قال «نَعَمْ»‏.‏ قال‏:‏ وأم الدحداح معي‏؟‏ يعني امرأته‏.‏ قال‏:‏ «نَعَمْ»‏.‏ قال‏:‏ والدحداح معي‏؟‏ يعني ابنه‏.‏ فقال‏:‏ «نَعَمْ»‏.‏ قال‏:‏ أشهدك أني قد جعلت حديقتي لله تعالى‏.‏ ثم جاء إلى الحديقة، فقام على الباب وتحرج الدخول فيها، بعدما جعلها لله تعالى ونادى‏:‏ يا أم الدحداح اخرجي، فإني جعلت حديقتي لله تعالى، فخرجت وتحولت إلى حديقة أخرى، وقالت له‏:‏ هنيئاً لك بما فعلت أو كما فعلت، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ يعني ألفي ألف ضعف‏.‏

قال الفقيه‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ حدثنا فارس بن مردويه قال‏:‏ حدثنا محمد بن الفضيل قال‏:‏ حدثنا المعلى بن منصور قال‏:‏ حدثنا جعفر قال‏:‏ حدثنا علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال‏:‏ بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال‏:‏ إن الله تعالى يكتب للعبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام لألقى أبا هريرة، فأكلمه في هذا الحديث فلقيته فأخبرته فقال‏:‏ ليس كذا قلت، ولم يحفظ الذي حدثك عني‏.‏ وإنما قلت‏:‏ ألفي ألف حسنة‏.‏ ثم قال أبو هريرة‏:‏ أو لستم تجدون في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏كَثِيرَةٍ‏}‏ أكثر من ألف ألف ومن ألفي ألف‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَقْبِضُ‏}‏، أي يقتر الرزق على من يشاء؛ ‏{‏وَيَبْصُطُ‏}‏، أي يوسع على من يشاء من عباده‏.‏ ويقال‏:‏ يقبض الصدقات ويخلفها الثواب في الدنيا والآخرة‏.‏ وقال بعضهم يسلب قوماً ما أنعم عليهم ويوسع على آخرين‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ في الآخرة قرأ حمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ‏}‏ بالألف وبضم الفاء، وقرأ عاصم ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ‏}‏ بالألف وبنصب الفاء، وقرأ ابن كثير ‏{‏فَيُضْعِفُهُ‏}‏ بغير ألف وبضم الفاء، وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏فَيُضْعِفُهُ‏}‏ بغير ألف وبنصب الفاء‏.‏ فأما من قرأ‏:‏ ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ‏}‏ ‏[‏بالألف والضم‏]‏، ‏{‏يضاعفه‏}‏ فهما لغتان بمعنى واحد‏.‏ يقال‏:‏ ضاعفت الشيء وضعفته‏.‏ ومن قرأ بضم الفاء عطفه على قوله‏:‏ ‏{‏يُقْرِضُ الله‏}‏‏.‏ ومن نصبه فعلى جواب الاستفهام‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏***يَبْصُطُ‏}‏ بالصاد، وقرأ الباقون‏:‏ بالسين وهو أظهر عند أهل اللغة‏.‏ وفي كل موضع يكون الصاد قريباً من الطاء، جاز أن يقرأ بالسين وبالصاد مثل المصيطرون ومثل‏:‏ الصراط، لأنه يشتد فرق الصاد عند ذلك فيجوز القراءة بالسين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏246- 252‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ موسى‏}‏، يعني الرؤساء والقادة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ اشتقاق الملأ في اللغة من الملأ وهم الجماعة التي تملأ باديتهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الناظر إذا نظر إليهم، امتلأ عينه هيبة منهم؛ وذلك أن كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم، وسبوهم، وأخرجوهم من ديارهم‏.‏ وكان رئيسهم جالوت، فلما اضطر المسلمون في ذلك جاؤوا إلى نبي لهم يقال له‏:‏ أشمويل بن هلقانا عليه السلام بلغة العبرانية وبالعربية إسماعيل بن هلقان، ‏{‏إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ‏}‏، يعني أشمويل‏:‏ ‏{‏ابعث لَنَا مَلِكًا‏}‏، يعني ادع لنا الله تعالى أن يجعل لنا ملكاً، يعني رجلاً ينتظم به أمرنا‏.‏ ‏{‏نقاتل فِى سَبِيلِ الله‏}‏‏.‏

ف ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم أشمويل‏:‏ ‏{‏هَلْ عَسَيْتُمْ‏}‏‏.‏ قرأ نافع‏:‏ ‏{‏هَلْ عَسَيْتُمْ‏}‏ بكسر السين، وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب، وهي اللغة المعروفة‏.‏ والأول لغة لبعض العرب ‏{‏هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا‏}‏، يعني إذا بعث الله لكم ملكاً وفرض عليكم القتال، لعلكم لا تقاتلون وتجبنون عن القتال‏.‏ ‏{‏قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل فِى سَبِيلِ الله‏}‏، يقول‏:‏ كيف لا نقاتل في سبيل الله؛ ‏{‏وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا‏}‏، يعني أخذوا ديارنا وسبوا أبنائنا‏.‏

‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال‏}‏، أي فرض عليهم القتال‏.‏ ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ وتركوا القتال ولم يثبتوا ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ‏}‏، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏، يعني أن الله تعالى يعلم جزاء من تولى عن القتال‏.‏

ثم بيّن لهم القصة بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا‏}‏، يعني قال‏:‏ أجابكم ربكم إلى ما سألتم من بعث ملك تقاتلون في سبيل الله معه، وقد جعل لكم طالوت ملكاً؛ وكان طالوت فيهم حقير الشأن، وكانت النبوة في بني لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهوذا‏.‏ ولم يكن طالوت من أهل بيت النبوة ولا من أهل بيت الملك‏.‏ ويقال‏:‏ كان رجلاً يبيع الخمر، ويقال‏:‏ كان بقاراً، ويقال‏:‏ كان دباغاً، ولكنه كان عالماً فرفعه الله بعلمه‏.‏ ‏{‏قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا‏}‏، يعني المسلمون قالوا لنبيهم‏:‏ من أين يكون له الملك ‏{‏عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ‏}‏‏؟‏ لأن منا الملوك‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يُؤْتَ‏}‏ طالوت ‏{‏سَعَةً مّنَ المال‏}‏ ينفق علينا‏.‏ والملك يحتاج إلى مال ينفق على جنوده وأعوانه‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ لهم نبيهم عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ‏}‏، يعني اختاره عليكم ‏{‏وَزَادَهُ بَسْطَةً‏}‏، أي فضيلة ‏{‏فِي العلم والجسم‏}‏؛ وكان رجلاً جسيماً وكان عالماً‏.‏ ويقال‏:‏ كان عالماً بأمر الحرب‏.‏ ‏{‏والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

والواسع في اللغة‏:‏ هو الغني‏.‏ ويقال‏:‏ واسع بعطية الملك، عالم لمن يعطيه‏.‏ ويقال‏:‏ واسع يعني باسط الرزق، عليم بمن يصلح له الملك‏.‏ فظنوا أنه يقول لهم من ذات نفسه‏.‏ وقالوا له‏:‏ إن كان الله تعالى أمرك بذلك، فأتنا بآية قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت‏}‏؛ وذلك أن الكفار كانوا أخذوا التابوت، وكان التابوت للمسلمين، فإذا خرجوا للغزو والتابوت معهم كانوا يرجون الظفر‏.‏ فأخذ الكفار التابوت ووضعوه في مزبلة أي في مخرأة لهم فابتلاهم الله تعالى بالباسور‏.‏ ويقال إن أصل الباسور من ذلك الوقت، وأصل الجذام من وقت أيوب عليه السلام وتغير الطعام من قبل بني إسرائيل‏.‏ فجعل الله تعالى آية ملك طالوت رد التابوت إليهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ‏}‏ يعني علامة ملكة ‏{‏أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت‏}‏‏.‏

‏{‏فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏‏.‏ قال الكلبي‏:‏ سكينة أي‏:‏ طمأنينة، إذا كان التابوت في مكان اطمأنت قلوبهم بالظفر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ السكينة كانت دابة ورأسها كرأس الهرة ولها جناحان، فإذا صوَّتت، عرفوا أن النصر لهم‏.‏ ويقال‏:‏ كانت جوهراً أحمر يسمع منه الصوت‏.‏ ويقال‏:‏ كانت ريحاً تهب فيها لها صوت يعرفون أن النصرة لهم عند الصوت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ موسى وَءالُ هارون‏}‏، يعني الرضاض من الألواح، وقفيز من منّ في طست من ذهب، وعصا موسى، وعمامة هارون؛ قال الكلبي‏:‏ وكان التابوت من عود الشمشار الذي يتخذ منه الأمشاط، فلما ابتلاهم الله تعالى بالباسور، عرفوا أن ذلك من التابوت، فقالوا‏:‏ لعل إله بني إسرائيل الذي فينا، يعنون التابوت، هو الذي يفعل بنا هذا الفعل، فأخرجوا بقرتين من المدينة وتركوا أولادها في المدينة، وربطوا التابوت على عجلة ثم ربطوا العجلة بالبقرتين، ثم وجهوهما نحو بني إسرائيل؛ فضربت الملائكة جنوبهما، وساقوهما حتى هجموا بهما على أرض بني إسرائيل، فأصبحوا والتابوت بين أظهرهم‏.‏ وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَحْمِلُهُ الملائكة‏}‏، يعني الملائكة ساقوا العجلة‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ‏}‏، يعني إن في رد التابوت علامة لملك طالوت ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏، أي مصدقين بأن ملكه من الله تعالى فعرفوا وأطاعوه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود‏}‏، يعني فتجهز طالوت وخرج بالجنود وهم سبعون ألفاً، فصاروا في حر شديد، فأصابهم عطش شديد، فسألوا طالوت الماء‏.‏ ف ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم طالوت‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ‏}‏ وهو بين الأردن وفلسطين؛ وإنما كان الابتلاء ليظهر عند طالوت من كان مخلصاً في نيته من غيره؛ وأراد أن يميز عنهم من لا يريد القتال، لأن من لا يريد القتال إذا خالط العسكر، يدخل الضعف والوهن في العسكر، لأنه إذا انهزم وهرب ضعف الباقون‏.‏

ويقال‏:‏ إن أشمويل هو الذي أخبر طالوت بالوحي، حتى أخبر طالوت قومه حيث قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي‏}‏، يعني ليس معي على عدوي، إذا شرب بغير غرفة‏.‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى‏}‏، يعني لم يشرب منه يعني غرفة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ مِنّى‏}‏، أي معي على عدوي ‏{‏إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ‏}‏‏.‏ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏غُرْفَةً‏}‏ بنصب الغين، وقرأ الباقون برفع الغين‏.‏ فمن قرأ بالنصب، يكون مصدر غرفة، أي مرة واحدة باليد‏.‏ ومن قرأ بالضم، هو ملء الكف وهو اسم الماء مثل‏:‏ الخَطوة والخُطوة‏.‏ قال بعض المفسرين‏:‏ الغَرفة بكف واحدة والغُرفة بالكفين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كلاهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏

فلما خرجوا من المفازة وقد أصابهم العطش، وقفوا في النهر، ‏{‏فَشَرِبُواْ مِنْهُ‏}‏ بغير غرفة ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ‏}‏، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر‏:‏ «أَنْتُمْ عَلَى عَدَدِ المُرْسَلِينَ وَعَدَدِ قَوْمِ طَالوتَ ثَلاثمائةٍ وثلاثة عشر»، فأمر من شرب بغير غرفة أن يرجعوا‏.‏ ويقال‏:‏ قد ظهر على شفاههم علامة، عرف بها من شرب من الذي لم يشرب، فردهم وأمسك المخلصين منهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَهُ‏}‏، يعني جاوز النهر‏.‏ ‏{‏هُوَ‏}‏، يعني طالوت ‏{‏والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ ودنوا إلى عسكر جالوت، وكان معه مائة ألف فارس كلهم شاكون في السلاح‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏، أي المؤمنون‏:‏ ‏{‏لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ‏}‏، لما رأوا من كثرتهم‏.‏ ‏{‏قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله‏}‏، يعني أيقنوا بالموت لما رأوا من كثرة العدو فأيقنوا بهلاك أنفسهم‏.‏ ويقال‏:‏ أيقنوا بالبعث بعد الموت وهو قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله‏}‏، وهم أهل العلم منهم‏:‏ ‏{‏كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ‏}‏، يعني كم من جند قليل، ‏{‏غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً‏}‏ عدتهم ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏، أي بنصر الله وأمره، إذا خلصت نيتهم، وطابت أنفسهم بالموت في طاعة الله ‏{‏والله مَعَ الصابرين‏}‏ بالنصرة على عدوهم أي معينهم‏.‏

‏{‏وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ‏}‏، يقول‏:‏ خرجوا واصطفوا لجالوت‏.‏ دعوا الله تعالى، ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا‏}‏، أي أصبب علينا صبراً، معناه ارزقنا الصبر على القتال، ‏{‏وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ عند القتال ‏{‏وانصرنا عَلَى القوم الكافرين‏}‏‏.‏

قال وكان داود عليه السلام راعياً، وكان له سبعة أخوة مع طالوت؛ فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم وكان اسمه إيشا أرسل إليهم ابنه داود ينظر إليهم ما أمرهم ويأتيه بخبرهم فلما خرج، مرَّ على حجر فقال له الحجر‏:‏ خذني فإني حجر إبراهيم قتل بي عدوه، فأخذه وجعله في مخلاته ثم مرَّ بآخر فقال له‏:‏ خذني فإني حجر موسى الذي قتل بي كذا كذا، ثم مرَّ بثالث فقال له‏:‏ خذني فأنا الذي أقتل جالوت، فأخذه وجعله في مخلاته؛ فأتاهم وهم بالصفوف وقد برز جالوت وقال‏:‏ من يبارزني‏؟‏ فلم يخرج إليه أحد‏.‏

ثم قال‏:‏ يا بني إسرائيل لو كنتم على حق، لخرج إلي بعضكم‏.‏ فقال داود لإخوته‏:‏ أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف‏؟‏ فقالوا له‏:‏ اسكت‏.‏ فذهب داود إلى ناحية من الصف ليس فيها أحد من إخوته، فمر طالوت به وهو يحرض الناس، فقال له داود‏:‏ وما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف‏؟‏ قال طالوت‏:‏ أنكحه ابنتي واجعل له نصف ملكي‏.‏ قال داود‏:‏ فأنا أخرج إليه‏.‏ فأعطاه طالوت درعه وسيفه، فلما خرج في الدرع جرها، لأن طالوت كان أطول الناس، فرجع داود إلى طالوت وقال‏:‏ إني لم أتعود القتال في الدرع، فرد الدرع إليه‏.‏ فقال له طالوت‏:‏ فهل جربت نفسك‏؟‏ قال‏:‏ نعم وقع ذئب في غنمي فضربته بالسيف فقطعته نصفين‏.‏ فقال له طالوت‏:‏ إن الذئب ضعيف، فهل جربت نفسك في غير هذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم دخل أسد في غنمي فضربته، ثم أخذت بلحييه فشققتها، فقال له‏:‏ هذا أشد، ثم قال له ما اسمك‏؟‏ قال‏:‏ داود بن إيشا‏.‏ فعرفه‏.‏ فرأى أنه أجلد إخوته، فأخذ قذافته وخرج‏.‏ فلما رآه جالوت قال‏:‏ خرجت إليّ لتقتلني بالقذافة كما تقتل الكلاب‏؟‏ فقال له داود‏:‏ وهل أنت إلا مثل الكلاب‏؟‏ قال الكلبي‏:‏ وكان على رأس جالوت بيضة ثلاثمائة رطل، فقال له جالوت‏:‏ إما أن ترميني وإما أن أرميك‏.‏ فقال له داود‏:‏ بل أنا أرميك‏.‏ ثم أخذ واحداً من الأحجار الثلاثة فرماه، فوقع في صدره ونفذ من صدره فقتل خلفه خلقاً كثيراً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ صارت الأحجار كلها واحداً؛ فلما رماها تفرقت في عسكره فقتلت خلقاً كثيراً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ رمى واحداً بعد واحد، فقتل جالوت وخلقاً كثيراً وهزمهم الله بإذنه، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ‏}‏‏.‏

ثم إن طالوت زوج داود ابنته وأراد أن يدفع إليه نصف ملكه، فقال له وزراؤه‏:‏ إن دفعت إليه نصف ملكك، فيصير منازعاً لك في ملكك، ويفسد عليك الملك‏.‏ فامتنع من ذلك وأراد قتل داود عليه السلام وكان في ذلك ما شاء الله حتى دفع إليه النصف، ثم خرج طالوت إلى بعض المغازي فقتل هناك، فتحول الملك كله إلى داود‏.‏ ولم يجتمع بنو إسرائيل كلهم على ملك واحد إلا على داود‏.‏ فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وآتاه الله الملك‏}‏، يعني ملك اثني عشر سبطاً ‏{‏والحكمة‏}‏، يعني النبوة، وأنزل عليه الزبور أربعمائة وعشرين سورة؛ ‏{‏وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء‏}‏، أي علم داود من صنع الدروع وكلام الطيور وتسبيح الجبال معه وكلام الدواب‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ‏}‏، أي يدفع البلاء عن المؤمنين بالنبيين عليهم السلام ويدفع بالمؤمنين عن الكفار، ‏{‏لَفَسَدَتِ الارض‏}‏، أي هلك أهلها‏.‏

ويقال‏:‏ ولولا دفع الله جالوت بطالوت، لهلكت بنو إسرائيل كلهم‏.‏ ويقال‏:‏ ولولا دفع الله البلايا بسبب المطيعين، لهلك الناس كما جاء في الأثر‏:‏ لولا رجال خشع وصبيان رضع وبهائم رتع، لصببت عليكم العذاب صباً‏.‏ وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ لولا الصالحون لهلك الطالحون‏.‏ ويقال‏:‏ لولا ما أمر الله المؤمنين بحرب الكفار، لفسدت الأرض بغلبة الكفار‏.‏ ويقال لولا ما ينتفع بعض الناس ببعض، لأن في كل أرض بلدة يتولد فيها شيء لا يوجد ذلك في سائر البلدان، فينتفع بها أهل سائر البلدان؛ وينتفع بعضهم ببعض، فيكون في ذلك صلاح أهل الأرض‏.‏

قرأ نافع هاهنا ‏{‏وَلَوْلاَ دِفَاع الله‏}‏ وفي الحج‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُدَافِعُ‏}‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف في كلا الموضعين، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله‏}‏ بغير ألف، ‏{‏إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامنوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 38‏]‏ بالألف‏.‏ وتفسير القراءتين واحد وهما لغتان معروفتان‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين‏}‏، أي ذو منّ عليهم بالدفع عنهم‏.‏ ‏{‏تِلْكَ آيات الله‏}‏ وهو ما قصّ عليه من أخبار الأمم‏.‏ ‏{‏نَتْلُوهَا عَلَيْكَ‏}‏، أي ننزلها بقراءة جبريل عليك ‏{‏بالحق‏}‏، أي بالصدق‏.‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏، يعني إنك لمن جملة المرسلين الذين ذكرناهم‏.‏ وقال الزجاج تلك آيات الله، أي هذه الآيات التي أنبئت، أي العلامات التي تدل على توحيده وتثبت رسالته، إذ كان يعجز عن إتيان مثلها المخلوقون؛ وإنك من هؤلاء المرسلين، لأنك قد أتيتهم بالعلامات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏253‏]‏

‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ الرسل‏}‏ ‏{‏الذين أنزلنا عليك خبرهم في القرآن، ‏{‏فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ التفضيل يكون على ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها أن يكون دلالة نبوته أكثر‏.‏ والثاني‏:‏ أن تكون أمته أكثر‏.‏ والثالث‏:‏ أن يكون بنفسه أفضل‏.‏ ثم بيّن تفضيلهم فقال‏:‏ ‏{‏مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله‏}‏، مثل موسى عليه السلام ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات‏}‏، يعني إدريس عليه السلام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جاء في التفسير أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه أرسله إلى الناس كافة‏.‏ وليس شيء من الآيات التي أعطاها الله الأنبياء عليهم السلام إلا والذي أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر، لأنه قد كلمته الشجرة، وأطعم من كف من التمر خلقاً كثيراً، وأمرَّ يده على شاة أم معبد فدرت لبناً كثيراً بعد الجفاف، ومنها انشقاق القمر فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب وَقَفَّيْنَا‏}‏، يعني العجائب والدلائل وهو‏:‏ أن يحيي الموتى بإذنه، ويبرئ الأكمه والأبرص؛ ‏{‏وأيدناه بِرُوحِ القدس‏}‏، يعني أعناه بجبريل حين أرادوا قتله‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏ التي أتاهم بها موسى وعيسى عليهما السلام وقال الزجاج‏:‏ يحتمل وجهين‏:‏ ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة ويحتمل ولو شاء الله اضطرهم إلى أن يكونوا مؤمنين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الارض أَوْ سُلَّماً فِى السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِأايَةٍ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏ ولكن اختلفوا في الدين فصاروا فريقين ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ‏}‏ بالكتاب والرسل‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا‏}‏ وجعلهم على أمر واحد‏.‏ ‏{‏ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏، أي يعصم من يشاء من الاختلاف، ويخذل من يشاء؛ فلا مرد لأمره، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏254‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم‏}‏، أي تصدقوا‏.‏ قال بعضهم‏:‏ أراد به الزكاة المفروضة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ صدقة التطوع‏.‏ ثم بيّن لهم أن الدنيا فانية وأنه في الآخرة لا ينفعهم شيء إلا ما قدموه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ‏}‏، يقول‏:‏ لا فداء فيه ‏{‏وَلاَ خُلَّةٌ‏}‏ يعني الصدقة وهذا كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلاَ شفاعة‏}‏ للكافرين كما يكون في الدنيا‏.‏

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة‏}‏ بالنصب وكذلك في سورة إبراهيم‏:‏ «لاَ بَيْعَ فِيهِ وَلاَ خِلاَلَ» وقرأ الباقون بالضم مع التنوين‏.‏ ثم قال تعالى عز وجل‏:‏ ‏{‏والكافرون هُمُ الظالمون‏}‏ أنفسهم‏.‏ والظلم في اللغة‏:‏ وضع الشيء في غير موضعه‏.‏ وكان المشركون يقولون‏:‏ الأصنام شركاؤه وهم شفعاؤنا عند الله؛ فوحد الله نفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏255‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏‏}‏

فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم‏}‏؛ يقول‏:‏ لا خالق ولا رازق ولا معبود إلا هو‏.‏ ويقال‏:‏ الإثبات إذا كان بعد النفي، فإنه يكون أبلغ في الإثبات، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏؛ فبدأ بالنفي ثم استثنى الإثبات، فيكون ذلك أبلغ في الإثبات‏.‏ ‏{‏الحى القيوم‏}‏، يقول‏:‏ الحي الذي لا يموت، ويقال‏:‏ الحي الذي لا بدئ له، يعني لا ابتداء له؛ ‏{‏القيوم‏}‏، يعني القائم على كل نفس بما كسبت، ويقال‏:‏ القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم ورزقهم ومعنى القائم‏:‏ هو الدائم‏.‏

‏{‏لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏؛ روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ السنة والنوم، كلاهما واحد، ولكنه أول ما يدخل في الرأس يقال له‏:‏ سنة ويكون بين النائم واليقظان، فإذا وصل إلى القلب صار نوماً‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ أنه ليس بغافل عن أمور الخلق، فيكون النوم على وجه الكناية‏.‏ وقال بعضهم هو على ظاهره أنه مستغن عن النوم‏.‏

وروي في بعض الأخبار أن موسى بن عمران عليه السلام حين رفع إلى السماء، سأل بعض الملائكة؛ أينام ربنا‏؟‏ وقال بعضهم‏:‏ خطر ذلك بقلبه، ولم يتكلم به فأمره الله تعالى أن يأخذ زجاجتين، وأمره بأن يحفظهما، ثم ألقى عليه النوم فلم يملك نفسه حتى نام، فانكسرت الزجاجتان في يده فقال له‏:‏ يا موسى لو كان لي نوم، لهلكت السموات والأرض أسرع من كسر الزجاجتين في يدك فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏‏.‏ كلهم عبيده وإماؤه وهو مستغن عن الشريك، ويقال‏:‏ معناه أن كل ما في السموات والأرض يدل على وحدانيته‏.‏ ‏{‏مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ‏}‏، يقول‏:‏ من ذا الذي يجترئ أن يشفع عنده ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ دون أمره، رداً لقولهم حيث قالوا‏:‏ هم شفعاؤنا عند الله‏.‏ وفي الآية دليل على إثبات الشفاعة لأنه قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ففيه دليل على أن الشفاعة قد تكون بإذنه للأنبياء والصالحين‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏، يعني الله لا إله إلا هو الحي القيوم، هو الذي يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا، يعني يعلم أن الأصنام لا يدعون الألوهية‏.‏ ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏، يعني يعلم أنه لا شفاعة لهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏، يعني ما كان قبل خلق الملائكة ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏، أي ما يكون بعد خلقهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يعني يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعلم ما بين أيديهم من أمر الآخرة وما خلفهم من أمر الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏256‏]‏

‏{‏لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏256‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا إِكْرَاهَ فِى الدين‏}‏، يعني لا تكرهوا في الدين أحداً، بعد فتح مكة وبعد إسلام العرب‏.‏ ‏{‏قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي‏}‏، أي قد تبين الهدى من الضلالة‏.‏ ويقال‏:‏ قد تبين الإسلام من الكفر، فمن أسلم وإلا وضعت عليه الجزية ولا يكره على الإسلام‏.‏

‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت‏}‏، يعني بالشيطان ويقال‏:‏ الصنم‏.‏ ويقال‏:‏ هو كعب بن الأشرف، ‏{‏وَيُؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى‏}‏، يقول‏:‏ بالثقة يعني بالإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ فقد تمسك بلا إله إلا الله‏.‏ ‏{‏لاَ انفصام لَهَا‏}‏، يعني لا انقطاع لها ولا زوال لها ولا هلاك لها‏.‏ ويقال‏:‏ قد استمسك بالدين الذي لا انقطاع له من الجنة‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ بقولهم، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏257‏]‏

‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏257‏)‏‏}‏

‏{‏الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ‏}‏، أي حافظهم ومعينهم وناصرهم‏.‏ ‏{‏يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏، يعني من الكفر إلى الإيمان‏.‏ واللفظ لفظ المستقبل والمراد به الماضي، يعني أخرجهم‏.‏ ويقال‏:‏ ثبتهم على الاستقامة كما أخرجهم من الظلمات‏.‏ ويقال‏:‏ يخرجهم من الظلمات، أي من ظلمة الدنيا ومن ظلمة القبر ومن ظلمة الصراط إلى الجنة‏.‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت‏}‏، يعني اليهود أولياؤهم كعب بن الأشرف وأصحابه‏.‏ ويقال‏:‏ المشركون أولياؤهم الشياطين‏.‏ ‏{‏يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات‏}‏، يعني يدعونهم إلى الكفر، كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بأاياتنآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏، يعني ادع قومك‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏، يعني أهل النار هم فيها خالدون أي دائمون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ‏}‏، يقول‏:‏ ألم تخبر بقصة الذي خاصم إبراهيم في توحيد ربه‏.‏ ‏{‏أَنْ آتاه الله الملك‏}‏، وهو النمرود بن كنعان، وهو أول من ملك الدنيا كلها‏.‏ وكانوا خرجوا إلى عيد لهم، فدخل إبراهيم عليه السلام على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا، قال لهم‏:‏ أتعبدون ما تنحتون‏؟‏ فقالوا له‏:‏ من تعبد أنت‏؟‏ قال‏:‏ أعبد ربي الذي يحيي ويميت‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان النمرود يحتكر الطعام، وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترون منه، وإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل عليه إبراهيم ولم يسجد له، فقال له النمرود‏:‏ ما لك لم تسجد‏؟‏ فقال‏:‏ أنا لا أسجد إلا لربي‏.‏ فقال النمرود‏:‏ من ربك‏؟‏ فقال له إبراهيم‏:‏ ‏{‏رَبّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ‏}‏ له النمرود‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى‏}‏، قال إبراهيم كيف تحيي وتميت‏؟‏ فجاءه برجلين فقتل أحدهما وخلى سبيل الآخر، ثم قال‏:‏ قد أمت أحدهما وأحييت الآخر‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ له ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏:‏ إنك أحييت الحي ولم تحيي الميت؛ وإن ربي يحيي الميت‏.‏

فخشي إبراهيم أن يلبس النمرود على قومه، فيظنون أنه أحيا الميت كما وصف لهم النمرود، فجاءه بحجة أظهر من ذلك حيث قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب‏}‏ فإن قيل‏:‏ لِمَ لَمْ يثبت إبراهيم على الحجة الأولى‏؟‏ وانتقل إلى حجة أخرى؛ والانتقال في المناظرة من حجة إلى حجة غير محمود‏.‏ قيل له‏:‏ الانتقال على ضربين‏:‏ انتقال محمود إذا كان بعد الإلزام، وانتقال مذموم إذا كان قبل الإلزام‏.‏ وإبراهيم عليه السلام انتقل بعد الإلزام، لأنه قد تبين له فساد قوله، حيث قال له‏:‏ إنك قد أحييت الحي ولم تحيي الميت‏.‏ وجواب آخر‏:‏ إن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن للمناظرة، وإنما كان قصده إظهار الحجة، فترك مناظرته في الإحياء والإماتة على ترك الإطالة، وأخذ بالاحتجاج بالحجة المسكتة، ولأن الكافر هو الذي ترك حدّ النظر، حيث لم يسأل عما قال له إبراهيم، ولكنه اشتغل بالجواب عن ذات نفسه، حيث قال‏:‏ أنا أحيي وأميت‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الذى كَفَرَ‏}‏، أي انقطع وسكت متحيراً‏.‏ يقال‏:‏ بهت الرجل إذا تحير‏.‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏، أي لا يرشدهم إلى الحجة والبيان‏.‏ وروي في الخبر أن الله عز وجل قال‏:‏ وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة، حتى آتي بالشمس من المغرب، ليعلم أني أنا القادر على ذلك؛ ثم أمر النمرود بإبراهيم فألقي في النار، وهكذا عادة الجبابرة أنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة، اشتغلوا بالعقوبة؛ فأنجاه الله من النار وسنذكر قصة ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ‏}‏؛ قال بعضهم‏:‏ معناه إحيائي ليس كإحياء النمرود، ولكن إحيائي كإحياء عزير عليه السلام أحييته بعد مائة عام‏.‏ وقال بعضهم هو معطوف على ما سبق من قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أحياهم إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 243‏]‏ و‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَآجَّ إبراهيم فِى رِبِّهِ أَنْ آتاه الله الملك إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الذى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذى كَفَرَ والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ ‏{‏أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ‏}‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ والذي مرَّ على قرية هو عزير بن شرخيا، وكان من علماء بني إسرائيل، فمرَّ بدير هرقل بين واسط والمدائن على حمار فمرَّ بها ‏{‏وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏‏.‏ وقال الضحاك بن مزاحم‏:‏ هو عزير النبي عليه السلام مرَّ ببيت المقدس، وقد خربها بخت نصر، وقتل منهم سبعين ألفاً، وأسر منهم سبعين ألفاً، أي من بني إسرائيل فمرَّ عزير فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِىَ‏}‏‏.‏

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ إن بخت نصر غزا بني إسرائيل، فسبى منهم ناساً كثيرةً، فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا؛ وكان من علماء بني إسرائيل، فجاء بهم إلى بابل‏.‏ فخرج ذات يوم لحاجة له إلى دير هرقل على شاطئ دجلة، فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له، فربط حماره تحت ظل شجرة، ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكناً ‏{‏وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏، يقول‏:‏ ساقطة على سقوفها، وذلك أن السقف يقع قبل الحيطان ثم الحيطان على السقف، فهي خاوية على عروشها‏.‏ قال بعض أهل اللغة‏:‏ الخاوية، الخالية‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بقيت حيطانها لا سقوف عليها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ عروشها هي الخيام وهي بيوت الأعراب‏.‏

فتناول من الفاكهة والتين والعنب، ثم رجع إلى حماره فجلس يأكل من تلك الفاكهة، ثم عصر من العنب فشربه، ثم جعل فضل التين والعنب في سلة، وفضل العصير في الزق؛ ثم نظر إلى القرى فتعجب من كثرة ثمرها وفناء أهلها ف ‏{‏قَالَ أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ فلم يشك في البعث، ولكن أحب أن يريه الله كيف يحيي الموتى‏.‏ فلما تكلم عزير بذلك، نام في ذلك الموضع‏.‏

‏{‏فَأَمَاتَهُ الله‏}‏ في منامه ‏{‏مِاْئَةَ عَامٍ‏}‏، وأمات حماره، ‏{‏ثُمَّ بَعَثَهُ‏}‏ الله تعالى في آخر النهار، ومنعه الله تعالى في حال موته عن أبصار الناس والسباع والطير‏.‏

فلما بعثه الله تعالى، سمع صوتاً ‏{‏قَالَ‏}‏ له‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتَ‏}‏، أي كم مكثت في نومك يا عزير‏؟‏ ‏{‏قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا‏}‏؛ ثم نظر إلى الشمس، وقد بقي منها شيء لم تغرب فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ له‏:‏ ‏{‏بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ‏}‏، يعني كنت ميتاً مائة عام، ثم أخبره ليعتبر‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏فانظر إلى طَعَامِكَ‏}‏، يعني الفاكهة؛ ‏{‏وَشَرَابِكَ‏}‏، يعني العصير‏.‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏، يعني لم يتغير، كقوله‏:‏ ‏{‏

قرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتَ‏}‏ بإدغام الثاء والتاء‏.‏ وقرأ الباقون بإظهارها‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ ‏{‏لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ بغير هاء عند الوصل وأثبتت عند القطع‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ بحذف الهاء عند الوصل والقطع جميعاً‏.‏ وقرأ الباقون بإثبات الهاء عند الوصل والقطع‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ بمد الألف، وكذلك في جميع القرآن نحو هذا، إلا في قوله‏:‏ ‏{‏قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السواء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ وقرأ الباقون بغير مد؛ ومعنى القراءتين في هذا كله واحد‏.‏

ثم نظر عزير عليه السلام إلى حماره وقد بلي فنودي‏:‏ انظر إلى حمارك، فإذا هو عظم أبيض يلوح، وقد تفرقت أوصاله‏.‏ ثم سمع صوتاً قال‏:‏ أيتها العظام البالية، إني جاعل فيكن روحاً فاجتمعن، فسعى بعضها إلى بعض حتى استقر كل شيء في موضعه، ثم بسط عليه الجلد ونفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق‏.‏ فخرَّ عزير ساجداً لله تعالى وقال عند ذلك‏:‏ أعلم أن الله على كل شيء قدير؛ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ‏}‏، أي عبرة للناس، لأن أولاده قد صاروا شيوخاً وقد كان شاباً‏.‏ ‏{‏وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالزاي، وقرأ الباقون بالراء‏.‏ فمن قرأ بالراء، فمعناه كيف نحييها‏.‏ ونظيرها ‏{‏أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الارض هُمْ يُنشِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 21‏]‏، أي يبعثون الموتى‏.‏ ومن قرأ بالزاي‏:‏ أي كيف يضم بعضها إلى بعض‏.‏ النشز‏:‏ ما ارتفع من الأرض‏.‏ وهذا كما جاء في الأثر‏:‏ الرضاع ما أنبت اللحم، وأنشز العظم‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ أصل النشز الحركة؛ يقال‏:‏ نشز الشيء إذا تحرك، ونشزت المرأة عن زوجها والمراد ها هنا تضمنها‏.‏

‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ‏}‏، قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ‏}‏ بالجزم على مضي الأمر، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏قَالَ أَعْلَمُ‏}‏ على معنى الخبر عن نفسه ومعناه علمت بالمعاينة ما كنت أعلمه قبل ذلك غيباً‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ من الإحياء وغيره‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أن عزيراً لما أحياه الله تعالى قال في نفسه‏:‏ كم لبثت‏؟‏ قال‏:‏ لبثت يوماً أو بعض يوم‏.‏ فلما رجع إلى منزله ولقيه أقرباؤه وحسبوا غيبته، فقالوا له‏:‏ بل لبثت مائة عام وهذا قول من قال‏:‏ إن هذا لم يكن عزيراً النبي عليه السلام بل رجل آخر سوى عزير النبي عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى‏}‏، وذلك أن النمرود لما قال له‏:‏ أنا أحيي وأميت‏.‏ ووصف لهم ذلك، فسألوا إبراهيم فقالوا له‏:‏ كيف يحيي ربك الموتى‏؟‏ فأراد إبراهيم أن يرى ذلك بالمعاينة، حتى يخبرهم بما يرى من المعاينة، فسأل ربه فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى‏}‏‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ مرَّ إِبراهيم فرأى جيفة على ساحل البحر، يأكل منها دواب البحر والطيور، وبعضها يصير مستهلكاً في الأرض، فوقع في قلبه أن الذي تفرق في البحر وفي بطون الطير، كيف يجمعها الله تعالى، فأراد أن يعاين ذلك فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى‏}‏‏.‏ ف ‏{‏قَالَ‏}‏ له ربه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن‏}‏‏؟‏ يعني أو لم تصدق بأني أحيي الموتى‏؟‏ ‏{‏قَالَ بلى‏}‏ قد صدقت؛ ‏{‏ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى‏}‏، أي ليسكن قلبي‏.‏ ويقال‏:‏ إنما قال له‏:‏ أو لم تؤمن‏؟‏ لكي يظهر إقراره، لكي لا يظن أحد بعده أنه لم يكن مقراً بذلك في ذلك الوقت، فظهر إقراره بقوله‏:‏ بلى‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ليسكن قلبي أنك اتخذتني خليلاً‏.‏

‏{‏قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير‏}‏، فأخذ ديكاً وحمامة وطاووساً وغراباً؛ وفي بعض الروايات أخذ طاووساً وثلاثة من الطيور مختلفة ألوانها وأسماؤها وريشها‏.‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏، أي فقطعهن؛ وقال السدي‏:‏ يعني فدقهن، وقال الأخفش‏:‏ يعني اضممهن إليك‏.‏ وذكر مقاتل بإسناده عن الأعمش قال‏:‏ فيه تقديم وتأخير، فخذ إليك أربعة من الطيور فقطعهن واخلط بعضهن ببعض، ‏{‏ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا‏}‏، ثم فرقهن في أربعة أجبل‏.‏ ‏{‏ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْيًا‏}‏‏.‏ ففعل ذلك ودعاهن، فسعين على أرجلهن‏.‏

ويقال‏:‏ إنه لما وضعهن على الجبال، هبت الرياح الأربعة التي تقوم يوم القيامة؛ فواحدة من قبل المشرق، والأخرى من قبل المغرب، وواحدة من قبل اليمين، والأخرى من قبل الشمال؛ فرفعت الأعضاء المتفرقة عن مواضعها وحملتها إلى المواضع الأخرى، حتى اجتمع أعضاء كل طير في موضعها‏:‏ فجعل إبراهيم ينظر ويتعجب حيث ينضم بعضها إلى بعض‏.‏ فقال عند ذلك قوله‏:‏ ‏{‏واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ في ملكه، ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حكم بالبعث ولم أسأله لريب كان في قلبي، ولكن سألته ليسكن قلبي في الخلة‏.‏ قرأ ابن كثير أرْني بجزم الراء، وقرأ الباقون بالكسر؛ وقرأ حمزة فصرهن بكسر الصاد، والباقون بالضم‏.‏ فمن قرأ بالكسر يعني قطعهن، ومن قرأ بالضم يعني فضمهن إليك؛ ويقال هما لغتان ومعناهما وتفسيرهما واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏261- 262‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏‏}‏

‏{‏مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله‏}‏؛ نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما حثّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم فضة وقال‏:‏ يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضتها لربي‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بَارَكَ الله لَكَ فِيْمَا أَمْسَكْتَ وَفِيْمَا أَعْطَيْتَ» وقال عثمان بن عفان‏:‏ يا رسول الله، علي جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية ‏{‏مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله‏}‏؛ وفي الآية مضمر، ومعناه مثل النفقة التي تنفق في سبيل الله ‏{‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ‏}‏‏.‏ وطريق آخر مثل الذين ينفقون أموالهم، كمثل زارع زرع في الأرض حبة ف ‏{‏أَنبَتَتْ‏}‏ الحبة ‏{‏سَبْعَ سَنَابِلَ‏}‏، أي أخرجت سبع سنابل‏.‏ ‏{‏فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ‏}‏، فيكون جملتها سبعمائة‏.‏ فشبه المتصدق بالزارع، وشبه الصدقة بالبذر، فيعطيه الله بكل صدقة سبعمائة حسنة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يضاعف لِمَن يَشَاء‏}‏، أي يزيد على سبع مائة لمن يشاء، فيكون مثل المتصدق كمثل الزارع؛ إذا كان الزارع حاذقاً في عمله، ويكون البذر جيداً، وتكون الأرض عامرة، يكون الزرع مخصباً طيباً؛ فكذلك المتصدق، إذا كان صالحاً، والمال طيباً ويوضع في موضعه، فيصير الثواب أكثر‏.‏

‏{‏والله واسع‏}‏، أي واسع الفضل لتلك الأضعاف، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بما ينفقون وبما نووا فيها‏.‏ قرأ ابن كثير وابن عامر‏:‏ والله ‏{‏يضاعف‏}‏ بتشديد العين وحذف الألف، وقرأ الباقون ‏{‏يضاعف‏}‏ بالألف؛ ومعناهما واحد‏.‏ فالذي قرأ ‏{‏يضاعف‏}‏ من التضعيف، والذي قرأ ‏{‏يضاعف‏}‏ من المضاعفة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله‏}‏، أي يتصدقون بأموالهم؛ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى‏}‏، أي لا يمنون عليهم بما تصدقوا عليهم ولا يؤذونهم ولا يعيرونهم بذلك، ومعنى الأذى والتعيير هو أن يقع بينه وبين الفقير خصومة، فيقول له‏:‏ إني أعطيتك كذا وكذا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المنَّ يشبَّه بالنفاق، والأذى يشبّه بالرياء‏.‏ ثم تكلم الناس في ذلك، فقال بعضهم‏:‏ إذا فعل ذلك، لا أجر له في صدقته وعليه وزرٌ فيما منَّ على الفقير به‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ذهب أجره فلا أجر له ولا وزر عليه‏.‏ وقال بعضهم له أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمنِّ‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏، أي ثوابه في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ فيما يستقبلهم من العذاب‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ على ما خلفوا من أمر الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان، حين اشترى بئر رومة، ثم جعلها سبيلاً على المسلمين‏.‏